الفروسة بين عنترة وأبي فراس "مقاربة أنثروبولوجية

نوع المستند : نصوص کامله

المؤلف

جامعة الأزهر

المستخلص

قد حدا بالبحث هذا إلى المقاربة بين الفروسة عند الشاعرين من وجهة النظر الأنثروبولوجية([1])؛ حيث معرفة الظلال التي ألقاها تطور الأعراق والعادات والمعتقدات والعلاقات الاجتماعية والتوزيع الجغرافيّ على شعر الفروسة عندهما، وکذا أثر اختلاف السُّلالة البشريّة وخصائصها ومميِّزاتها لديهما؛ إذ نشأ کل من الشاعرين في بيئة مختلفة تماما عن بيئة الآخر؛
     فعصر عنترة هو العصر الجاهلي، بکل ما فيه من شرود وخروج على مبدأ المساواة بين البشر على اختلاف ألوانهم وأجناسهم، وموطنه أرض الشربة والعلم السعدي ببادية نجد وبلاد الحجاز بلاد الشظف والخشونة وعدم الاستقرار سعيا وراء العشب والکلأ ومنابع الماء، قضيته الدفاع عن قومه ليثبت لهم أنه جدير بأن ينسب إليهم وأن ينال ابنة عمه وعن نفسه ضد المتربصين الذين لا يحسن في أعينهم أن يروا رفعته بينهم تزيد وتنمو وعلوّ قامته في ازدياد يوما بعد يوم، وأعداؤه هم من يعادون قومه من عرب البوادي ومن ينقمون عليه السموّ إلى منزلة السادات ويرون ذلک منه تطاولاً وتجاوزاً للحدود.
     وأما عصر أبي فراس (320-357هـ) فهو العصر العباسي الثاني بکل آلامه وآماله، وهمومه وطموحاته، وما فيه من عدم استقرار سياسي، الشام موطنه، والإسلام دينه، والجهاد ديدنه، والروم أعداؤه، والملک والسيادة له، والشعر والفروسة سلاحه.
     اشترک الشاعران في الفروسة قولا وفعلا، فهما فارسان محاربان لم يصفا الحرب من بعيد، وإنما هما من أبطالها الذين اصطلوا بنارها، وخاضوا غمارها، فکان لهذا الاتصال الوثيق أثره الجلي في شعرهما، فهو عن تجربة وممارسة، لا عن اجتهاد وتأثر.
     ولهذا سأعمل بمشيئة الله تعالى على دراستهما، ليس لإظهار البراعة والغلبة لأحدهما، فليس هذا من وکدي، بل تلک مقاربة لإثبات مدى الاتصال والتأّثر والتأثير بينهما، وإنما آثرت المقاربة – في ضوء المنهج الأنثروبولوجي- لأنّ النصوص الشعريّة التي نقرؤها لـ "عنترة" قديمة؛ وأنها بحکم جاهليتها تتعامل مع المعتقدات، والأساطير، والحيوانات، والوشم، والمحلاّت، وکلّ ما له صلة بالحياة البدائيّة، وفي حين أن نصوص "أبي فراس" شمّت شيئا من الحضارة؛ فهو عباسيّ، لکنه عربيّ أصيل يعيش في دولة الحمدانيين التي لم تختلط بعجمة الأعاجم، وحاولت الحفاظ قدر استطاعتها على هُويتها العربية التي کان يصعب الحفاظ عليها آنذاک، وربما يعکس هذا قول أبي الطيب([2]): (الوافر)





ولکنَّ الفتى العربيَّ فيها
 


**


غريبُ الوجهِ واليدِ واللسان







     فما زال إذاً أبو فراس مشدودا – بحکم نشأته- لهذه البداوة التي تمثلت في الحياة العربية الأصيلة في العصرين الجاهلي والإسلامي، وما زالت نصوصه تحتفظ بهذا الطابع الأصيل لتلک النصوص العربية في عصر بداوتها وعروبتها الکاملة، مما أغراني بدراستها أنثروبولوجيا.



 ([1])الأنثروبولوجية: تعرف کذلک بالإناسة، أو "علم الإنسان"؛ وهو علم يبحث في أصل الجنس البشريّ وتاريخ تطوره وأعراقه وعاداته ومعتقداته وعلاقاته وتوزيعه الجغرافيّ، وفي السُّلالات البشريّة وخصائصها ومميِّزاتها". ينظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، 1/128، د/ أحمد مختار، عالم الکتب، ط1، 2008م.


 ([2])ديوان أبي الطيب المتنبي، 4/251،  شرح أبي البقاء العکبري، ضبط وتصحيح: مصطفى السقا وآخرون، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة، 1936م. ومعلوم أن المتنبي قاله في شعب بوان (أرض بفارس بين أرجان والنوبندجان)، کان أحد متنزهات الدنيا. وأعني بالاستشهاد التمثل إذ أصبح العربيّ غريبا في بلاده التي استولى على حکمها الأعاجم من فرس وترک وغيرهم، ولم يصبح للخلافة من شئون الحکم سوى الاسم، وانتزع العرب من مکانتهم.

الموضوعات الرئيسية